د. يوسف القرضاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبع هداه.
(وبعد)
حبُّ الدُّنيا علَّةٌ لكلِّ الأمراض:
أمراض الأُمَّة، تنخر في كيانها، وتعمل فيه عمل الدَّاء في الأجساد، فَتُوهن من قوَّتها، وتُضعف من صلابتها ومقاوماتها، وأهمِّ هذه الأمراض وأعضلها، وأشدِّها خطرًا، وأبعَدِها أثرًا، هذا المرض الذي يُعتبر علةً لكلِّ تلك الأمراض وجرثومةً لها، هو مرض حبِّ الدنيا، "حبُّ الدُّنيا رأس كلِّ خطيئة"[1] كما ورد في الأثر.
معنى حب الدنيا:
حبُّ الدُّنيا: أن تستولي الدُّنيا على قلبك، على تفكيرك، فتجعلها أكبر همِّك، ومبلغ علمك، وغاية اهتمامك، ومحور سعيك، فلا تعمل إلا لها، ولا تُفكِّر إلا فيها، ولا تحرص إلا عليها، ولا تسعى إلا إليها، ولا تفرح إلا بالحصول عليها، ولا تحزن إلا بفواتها، ولا تحبُّ ولا تكره، ولا تصل ولا تقطع، ولا توالي ولا تعادي، ولا تسالم أو تحارب، إلا من أجل الدنيا.
هذا هو معنى حبِّ الدُّنيا، أن تُسيطر الدُّنيا عليك، أن تتخذ الدُّنيا لك ربًّا، فتتَّخذها لك عبدًا، أن تعيش في الدنيا وكأنك مخلَّدٌ فيها، أن تحيا في هذه الدَّار وكأنَّها هي الدَّار الوحيدة، ألَّا تفكِّر في الموت وما بعد الموت، أن تعيش في الدنيا بهذه الرُّوح، بهذا التفكير، بهذا الاهتمام، هذا هو معنى حبِّ الدُّنيا.
حبُّ الدنيا من أسباب الوقوع في المعاصي:
وحبُّ الدُّنيا هو وراء كلِّ ما نرى من مصائب وكوارث، حبُّ الدُّنيا هو الذي يجعل الإنسان يستحلُّ الحرام، يأكل المال بالباطل، لا يُبَالي ما دخل بطنه من طعام، ولا ما دخل جيبه من دراهم، أحلال هي أم من حرام، حرامٌ أكلناه، حرام أكلناه.
حبُّ الدُّنيا من أسباب العداوة بين النَّاس:
حبُّ الدُّنيا هو الذي يجعل النَّاس يخاصم بعضهم بعضًا، ويعادي بعضهم بعضًا، ويكيد بعضهم لبعض، ويمكر بعضهم ببعض، حبُّ الدُّنيا هو الذي يجعل الابن يكيد لأبيه، والأبُّ يجعل أعداءه من بنية، والأخ يمكر بأخيه، ويحقد على أخيه.
حبُّ الدنيا يمزق الأسرة الواحدة:
حبُّ الدنيا هو الذي يمزِّق الأسرة الواحدة، يجعل أبناء الأب الواحد، بل ربما كانوا أبناء أب واحد وأمٍّ واحدة، يكيد بعضهم لبعض، من أجل ميراث، من أجل دنيا، من أجل مال، من أجل أن كلَّ واحد يريد أن يكون أغنى من الآخر، حبُّ الدنيا هو الذي يُمزِّق الناس بعضهم من بعض، هذه هي الدنيا، هذا هو حبُّ الدنيا.
تهافت الناس على الحياة وراءه حبُّ الدنيا:
ما تراه من هذا التهافت على هذه الحياة، على المال، على الجاه، على المنصب، وراءه هذه الآفة الخطيرة، هذا الداء العضال، حبُّ الدنيا.
أحبَّ الناسُ الدنيا فرأيناهم هكذا يتعادوْن، هكذا يتهارشون تهارش الذئاب، ويتعاوَوْن تعاويَ الكلاب، وينطلقون إلى هذه الجيفة، يريد كلٌّ منهم أن ينهش أكثر مما ينهش الآخر، ثمَّ ماذا؟ ماذا بعد ذلك؟
الدُّنيا سريعة التغيُّر:
إذا نهشتَ من الدُّنيا ما نهشتَ، إذا جمعتَ منها ما جمعتَ، إذا بنيتَ منها القصور، إذا شيَّدتَ منها الصُّروح، إذا كان رصيدك بالملايين أو بالبلايين، ماذا تكون النتيجة؟ النتيجة: أنك أيُّها الشاب ستشيب، أيُّها الصحيح ستمرض، أيَّها الحيُّ ستموت، النتيجة هناك في وادي الموتى، في المقابر.
اذهبوا إلى المقابر، هل تجدوا فرقًا بين صاحب الملايين وصاحب الملاليم؟ بين مَن رصيده بالملايين، ومَن لا رصيد له في أيِّ بنك من البنوك؟ هل تجد فرقًا بين الوزير أو الأمير أو الملك أو صاحب الجلالة أو مَن يسمونه ما يسمُّونه، هل تجد فرقًا بين هذا وبين خفيره أو ناطوره أو أي إنسان يحتقره الناس ولا ينظرون إليه؟ هل فرقت المقابر؟ هل فرق الموت بين أصحاب الدنيا العتيقة، وبين مَن لا يملكون منها شيئًا؟ لا والله، ما فرَّق الموت بين أحد من هؤلاء.
هل ذهب أحدٌ إلى القبر ومعه دفتر للشيكات؟ هل استطاع أحدٌ أن يرشوَ عزرائيل فيؤخِّره عن ميعاده المحتوم، وميقاته المعلوم يومًا أو يومين، أو ساعة أو ساعتين، أو دقيقة أو دقيقتين، أو لحظة أو لحظتين؟ لا والله، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11].
الدُّنيا سريعة الزوال:
لماذا إذن هذا التَّهافت على هذه الدُّنيا؟ لماذا هذا التَّكالب على هذه الدُّنيا؟ وهي سريعة التَّغير، كلُّ ما فيها إلى زوال.
لدُوا للموت وابنوا للخراب، هكذا ينادي منادٍ كلَّ يوم ويقول للناس:
لِدُوا للموت وابنوا للخراب
فكلُّكم يصير إلى تراب[2]
كلُّ مَن يُولَد يُولَد ليموت، وكلُّ ما يُشَيَّد يُشيَّد ليخرب، قد يطول عمره، ولكنه سيموت، قد يبقى هذا القصر مئةً أو مائتين، أو ألفًا أو ألفين، ولكنَّه سيخرب، لا محالة.
انظروا إلى مَن كان قبلنا، كانوا أطولَ منَّا أعمارًا، وأعمر منا ديارًا، وأبعد منا آثارًا، وها هي اليوم ديارهم وآثارهم خاوية، وقصورهم خالية، وأجسامهم بالية، هذا هو شأن هذه الحياة، الحياة الدُّنيا إلى زوال، كلُّ ما فيها إلى زوال.
أرى صاحب الدُّنيا وإن طال عيشه
ونال من الدُّنيا سرورًا وأنعما
كـبانٍ بنـى بنيـانه فأتــمَّـه
فلمَّا استوى ما قد بناه تهدَّما
هذا هو شأن الدُّنيا، لماذا يحرص النَّاس عليها هذا الحرص الذي نراه وهذه نهايتها؟
الله تعالى يقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد:20]، {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}، هذه هي نهاية الدنيا، نبت يزهر ويخضرُّ ثم بعد ذلك ينتهي إلى الحطام، ييبس وتأكله النار.
الدُّنيا أحلام نوم أو كظل زائل:
لماذا يحرص الناس على الدنيا وقد شبهها المشبِّهون بأنها أحلام نوم، أو كظل زائل؟
أحلام نومٍ أو كظلٍّ زائلٍ
إنَّ الَّلبيب بمثلها لا يُخدَعُ[3]
أَلَا إنَّما الدُّنيا كأحلامِ نائمٍ
وما خيرُ عيشٍ لا يكون بدائمِ؟!
تأمَّلْ إذا ما نِلْتَ بالأمسِ لذَّةً
فأفَنَيتها هل أنت إلَّا كحالمِ[4]!
قال أحد السلف: لو كانت الدنيا ذهبًا يفنى، والآخرة خزفًا يبقى، لكان على العاقل أن يختار خزفًا يبقى، على ذهبٍ يفنى. فكيف والدُّنيا هي الخزف، والآخرة هي الذهب[5]؟
بل أقول: إن الدنيا أقلُّ قيمة من الخزف، والآخرة أغلى وأنفس من الذهب، إنها دار الخلود، إنك لن تعيش في الآخرة يومًا أو يومين، ولا ألفًا ولا ألفين، ولا مليونًا ولا مليونين من السنين، إنها الخلود، إنها الأبد.
حين نزل على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]. جمع أقاربه من بني هاشم، وأولم لهم وليمة، وبعد أن أكلوا وشربوا، قام فيهم خطيبًا، ثمَّ قال: "إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبتُ الناس جميعًا ما كذبتُكم، ولو غررتُ الناس جميعًا ما غررتُكم، والله لتموتنَّ كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتحاسبنَّ بما تعملون، ولتجزونَّ بالإحسان إحسانًا، وبالسوء سوءًا، وإنَّها للجنة أبدًا، أو لنارٌ أبدا، وإنها لجنَّة أبدًا، أو لنارٌ أبدًا"[6].
وهذا ما جعل بعض الصالحين يقول: إنَّ الذي قطَّع قلوب الخائفين، إنَّما هو طول الخلودين، الخلود في الجنة، والخلود في النَّار[7].
الآخرة هي قضية الإنسان المصيرية:
الأمر ليس أمرًا هيِّنًا، إنها قضية المصير، الناس يتحدَّثون الآن عن القضايا المصيريِّة، والاهتمام بها، وأعظم القضايا المصيرية: هي مصيرك أيَّها الإنسان في الآخرة، إلى الجنَّة أم إلى النار، هذه هي قضيَّة القضايا، إلى الجنَّة أم إلى النَّار.
علام إذن يتهافت الناس تهافت الفراش في النَّار من أجل هذه الدُّنيا، علام يختصمون، وعلام يتغاضبون، وفيما يتنافسون في هذه الدُّنيا، في هذا الخزف الفاني، فيما هو أقل من خزف فانٍ، لا تساوي الدُّنيا كلَّ هذا، لا تساوي الدُّنيا أن يتعادى النَّاس من أجلها، ويقاتلوا عليها، ويقطعوا الأرحام، ويعقُّوا الآباء والأمَّهات، ويجافوا الأخوة والأخوات، والأعمام والعمَّات، والأخوال والخالات، من أجل هذه الدنيا.
قيمة الدُّنيا عند الله:
لا تساوي الدُّنيا كل هذا، النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: "لو كانت الدُّنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء"[8]. ولكن لهوان الدنيا على الله أن الكفَّار فيها يتمتَّعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وأن أولياء الله في هذه الدنيا يُبتلَون ويهانون.
في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: "إن أشدَّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"[9].
لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما عُذِبَ فيها أنبياء الله ورسُله وأولياؤه، ويحيى يُذبح كما تُذبح الشاة، وعيسى يُتآمر عليه، ومحمد يُوضع له السُّم، ويُؤذى ثلاثة عشر عامًا في مكة، ويُجاهد ويُقاتل عشرة أعوام في المدينة.
لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما رأينا أصحابه يسقطون شهداء، عمر وعثمان وعلي والحسين وغيرهم.
لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما رأينا الدُّعاة إلى الله يلاقون العذاب، ويذوقون الصَّاب والعلقم، وأعداء الله يتنعَّمون.
ـــــــ
[1] - قال ابن تيمية في مجموع الفتاوي (18/ 123): هذا معروف عن جندب بن عبد الله البجلي.
[2] - من شعر أبي العتاهية.
[3]- رواه ابن أبي الدُّنيا في ذمِّ الدُّنيا (23)، عن الحسن البصري.
[4]- ابن عبد ربه.
[5]- الفضيل بن عياض، إحياء علوم الدِّين (2/207).
[6]- ابن الأثير في الكامل (1/659).
[7]- ابن رجب في التخويف من النار صـ 44، عن يحي بن أبي كثير.
[8] - رواه الترمذي في الزهد (2320) وقال: صحيح غريب، وابن ماجه في الزهد (4110)، والحاكم في الرقائق (4/ 306) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وقال الذهبي: زكريا بن منظور ضعفوه، وقال الألباني في الصحيحة (686): صحيح لغيره، عن سهل بن سعد.
[9]- رواه أحمد (1481)، وقال مخرجوه: إسناده حسن رجاله ثقات رجال الشيخين غير عاصم بن بهدلة وهو صدوق، والترمذي في الزهد (2398)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الفتن (4023)، عن سعد بن أبي وقاص.